نظرات في عالم المال والأعمال : البعض يسأل عن سبب تقدم وازدهار بعض المؤسسات محدودة الإمكانيات وفي ذات الوقت يلاحظ تأخر واندثار مؤسسات كبيرة عظيمة الإمكانيات ، لنكن صرحاء ، أولا : يذكر خبراء التجارة والاقتصاد أن نجاح أي سلعة جديدة مرهون بثلاثة أشياء :
1-Customer centered . (مركزية العميل)
2-Team centered . (مركزية الفريق)
3-Systemation . (التنظيم) (1)
أركز في هذه السطور على أهم عنصر ، وهو الأول ، نفترض أنك طورت سلعة من أروع ما يكون لكنك لم تجد من يشتريها ، فما العمل ؟! ستخسر كثيرًا ، إذن العميل مهم جدًّا ؛ فلا بد أن تحسن معاملة العميل ، وتعطيه الوقت الكافي ؛ ليتعرف على ما لديك من منتجات ، والسوق يقول "الشغل يجلب شغلا" فكلما أحسنت في عرض سلعتك وأشعرت العميل بأهميته كلما بادلك العميل هذا الاهتمام والإحسان ، فتجده يدل أصدقاءه وأحبابه عليك ، وقد رأيت في حياتي الكثير من هؤلاء المبدعين ، بل ربما يتطور الأمر فيكون حسن معاملة التاجر للعملاء سببًا في توطيد العلاقات بينهم بإجراء صفقات أو بالزواج أو اعتناق دين التاجر ، ولا يخفى عليكم أن التجار المسلمين المهاجرين إلى أندونيسيا وجنوب شرق آسيا ضربوا أعظم الأمثال في هذا الباب ؛ فكانوا سببًا في إسلام ما لا يقل عن 500 مليون مسلم .
وإذا تناولنا الموضوع من جهة أخرى لارتد إلينا بصرنا خاسئًا وهو حسير ، كثير من العملاء يشتكون من قلة اهتمام موظفي الاستقبال أو المبيعات بهم ، وبعضهم يقابلك عابس الوجه كاسف البال وكأنه يعاتبك على المجيء ، وبعضهم يشعرك أنك لا تفهم شيئًا (وفي لغة الجسد نقول : الإشارة تغني عن العبارة) ، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى رفع الصوت على العميل ، وقد عانيت بنفسي من ذلك ، أحب أن أقول لهؤلاء ارْبَعُوا على أنفسهم ، إن كنتم معبئين بالهموم والأحزان فينبغي أن تأخذوا عطلة من العمل حتى يهدأ بالكم وتطمئن نفوسكم ، وإلا فستكون معاملتكم الجافة سببا رئيسا في فرار العملاء ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)) (آل عمران 159) . أخي الحبيب إذا كان بالك مشغولا فكيف تقنعني بشراء سلعتك ؟! أفرغ بالك وصَفِّ ذهنك لمعاملة الناس تربح نفسك وتربح الناس .
أحبابنا الكرام ... العالم كله اليوم في أمَسِّ الحاجة إلى البسمة والكلمة الطيبة والبساطة والمرونة والاهتمام بمن يحدثك والإقناع .... هذه المصطلحات الغريبة عن البعض تسمى بفن التواصل أو تدور في فلك ما يسمى في التنمية البشرية بالمهارات الناعمة (soft skills) وهي مهارات تكتسب كسائر المهارات "وإنما العلم بالتعلم" . ولو رجعنا إلى ديننا الحنيف "الإسلام" لعلمنا الحكمة الموجزة المشهورة "الدين المعاملة" ، ولرأينا هذه الأخلاق في أسمى صورها متمثلة في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان ، والمقام يضيق والوقت لا يتسع للتمثيل لكل خلق بمثال عملي من حياة هؤلاء العظماء ، فيكفي أن نذكر هذه الأمثلة الموجزة :
1-قال هند بن أبي هالة - رضي الله عنه - : "كَانَ النبي - عليه الصلاة والسلام - دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ، ولا صخّاب وَلَا فَحَّاشٍ، وَلَا عَيَّابٍ، وَلَا مَدَّاحٍ، يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي، وَلَا يُؤَيِّسُ مِنْهُ". (2)
2-كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا ، يعني إذا خاطب شخصًا أرعاه اهتمامه الكامل ، ولم يخاطبه وهو منشغل بأشياء أخرى . (3)
3-قال أنس - رضي الله عنه - : "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ فَصَافَحَهُ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ الَّذِي يَنْزِعُ" . (4)
4-وصف علي - رضي الله عنه - رسول الله - عليه الصلاة والسلام - قائلًا : "أَجْوَدُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً، مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . (5)
5- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ، مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " . (6)
6- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ " . (7)
ختامًا أقول : هذا ما فعله النبي - عليه الصلاة والسلام - وربى عليه أصحابه وأتباعه "القرآن العملي" كفانا كلامًا ، فلننطلق في أرض الله لننشر نور الله بالدعوة الصامتة ، بالبسمة والكلمة الطيبة . آن لأمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تتخلى عن أسباب الانحدار وتترقي بأسباب الازدهار ، مهما كان مصدرها ؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها ، وحينئذ سنستشعر على أرض الواقع معنى قول الله - تعالى - : ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) (آل عمران 110) . والله يهدينا وإياكم وجميع البشر إلى معرفة الحق والعمل به ، إنه على كل شيء قدير ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلم وبارِك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) للمزيد تابع دورات أستاذنا الحبيب د.هاني العمري - حفظه الله - .
(2) الشفا (1/ 246) .
(3) الشفا (1/ 166) .
(4) صحيح رواه الترمذي (4/ 654) (2490) ونعيم بن حماد في الزهد لابن المبارك (392) (1/ 132) وغيرهما .
(5) حسن ، رواه الترمذي في الشمائل (7/ 32) وابن أبي شيبة (31805) (6/ 328) وغيرهما .
(6) رواه مسلم (2/ 730) (1057) .
(7) البخاري (4/ 37) (2897) ومسلم (4/ 1962) (2532) .